الزواج في زمن التغيير- بين تقاليد الأمس وتحديات المستقبل

المؤلف: خميس الزهراني10.10.2025
الزواج في زمن التغيير- بين تقاليد الأمس وتحديات المستقبل

عندما أمعن النظر في ذكريات الماضي القريب، وأغوص بفكري في غياهب التاريخ الذي كان يمثل منبعًا ثريًا للقيم الأصيلة في كنف الحياة الأسرية، أجد أن الحياة الزوجية كانت حافلة بالتقاليد التي تنطوي على البهجة والتآلف والمودة. لم يكن الزواج في تلك الحقبة مجرد اتفاق اجتماعي رسمي، بل كان حدثًا جللًا ينتظره الجميع بشوق وابتهاج، الأهل والأقارب والجيران على حد سواء.

لقد كان المجتمع بأكمله يشارك بوئام في صناعة الفرح والاحتفالات البهيجة التي ترسخ دعائم الروابط الاجتماعية الوثيقة وتقوم عليها أسرة متينة ومستقرة.

ولكن، مع مرور الأيام وتعاقب العصور، تبدلت الأولويات واختلفت المقاييس، وظهرت مستجدات لم تكن تخطر على البال.

في سالف العصر والأوان، كان تأخر الزواج يعتبر أمرًا نادرًا يثير الاستغراب والتساؤل، وربما الشفقة، سواء بالنسبة للمرأة التي لم تتزوج في ريعان شبابها أو للرجل الذي تجاوز العقد الثاني من عمره دون أن يبني عش الزوجية.

أما في أيامنا هذه، فقد غدا الأمر شائعًا ومألوفًا لدرجة أنه لم يعد يثير الدهشة أو القلق، بل أصبح خيارًا يتبناه شريحة متزايدة من أفراد المجتمع.

ولعل من أبرز العوامل التي ساهمت في هذا التحول الجذري هو ذلك الإحساس المتنامي بالاكتفاء الذاتي لدى العديد من النساء. فقد أصبحت الحياة المستقلة أكثر يسرًا وسهولة بفضل توافر فرص العمل المتنوعة، والخدمات المتاحة، والقدرة على تحقيق الاستقلال المالي دون الحاجة إلى سند من شريك الحياة.

فالمرأة اليوم لم تعد تنظر إلى الزواج باعتباره ضرورة قاطعة وحتمية، بل بات خيارًا يمكن تأجيله أو حتى الاستغناء عنه، لا سيما في ظل نمط حياة يوفر لها الراحة والحرية الشخصية التي تطمح إليها.

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: هل يمكن اعتبار ذلك مجرد حالات فردية منعزلة أم أننا إزاء ظاهرة متنامية لها تداعيات أوسع نطاقًا؟

وهل سيؤثر هذا التوجه الجديد على توازن المجتمع وتماسك الأسرة في المستقبل المنظور؟

في حقيقة الأمر، لا نجد إجابة قاطعة شافية قد تلامس قناعتنا في ظل قصور الدراسات والاستطلاعات المتوفرة حول هذا الموضوع.

إن إتاحة الفرص الوظيفية للمرأة وتمكينها من العيش باستقلالية هو تقدم محمود يعكس تطور المجتمع وانفتاحه، ويمثل دعمًا قويًا لمن هن في أمس الحاجة إلى ذلك.

ومع ذلك، عندما يصبح العزوف عن الزواج أمرًا متزايدًا ومنتشرًا، فإنه يثير تساؤلات جوهرية حول انعكاساته بعيدة المدى على النسيج الاجتماعي المتين. فهل سيؤدي هذا الاتجاه إلى تغيير جذري في المفاهيم السائدة عن الأسرة؟ وهل سينتج عنه ارتفاع ملحوظ في معدلات الزواج المتأخر والانفصال السريع بسبب قرارات متسرعة وغير مدروسة تعكس ضغوط الحياة أكثر من الرغبة الصادقة في الاستقرار وتكوين أسرة سعيدة؟

بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل البعد المستقبلي للأفراد في خضم هذه التغيرات المتسارعة.

فمع تقدم العمر وتوالي السنين، قد يجد البعض أنفسهم في مواجهة واقع مختلف تمامًا عما كانوا يتوقعون، حيث يصبح وجود أسرة وأبناء سندًا وعونًا، ومصدر دعم نفسي واجتماعي لا يقدر بثمن، وحصنًا منيعًا يمنحهم الطمأنينة والسكينة في مراحل متقدمة من الحياة. فالزواج، إلى جانب كونه شراكة حياتية متينة، يمثل نوعًا من التأمين العاطفي والاجتماعي الذي لا غنى عنه.

وقد وصف الله عز وجل تلك العلاقة المقدسة في قوله: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)، وهذا التمثيل البليغ يشمل كلاً من المرأة والرجل على حد سواء، وهو ما قد يدفع البعض إلى إعادة النظر مليًا في قراراتهم حين تتغير الظروف وتتضح الاحتياجات الحقيقية للمستقبل.

هذه التساؤلات وغيرها الكثير تدور في دواخل الناس وفي مجالسهم الخاصة، وتستحق أن تُطرح على موائد النقاش بين الخبراء المعنيين بالتخطيط الاجتماعي، وصياغة القرارات الرسمية، بحيث يتم التوصل إلى توازن دقيق يحقق للفرد حقه الأصيل في الاختيار، دون أن يؤثر ذلك سلبًا على استقرار المجتمع وتماسكه ومستقبله الأسري المشرق.

فالزواج ليس مجرد التزام اجتماعي فحسب، بل هو عنصر أساسي ومهم في تكوين مجتمع سليم ومعافى ومتوازن، وهو يحتاج إلى إعادة تقييم ودراسة متأنية في ضوء هذه المتغيرات المتلاحقة، لضمان أن يبقى خيارًا متاحًا وممكنًا دون أن يكون عبئًا ثقيلاً أو مجرد استجابة متأخرة لضرورات الحياة وإكراهاتها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة